كيف يأخذونا أسرى...؟ - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


كيف يأخذونا أسرى...؟
سعيد أبو صالح - 05\01\2009

إن مقدار اللا مبالاة والبلادة بعد خيبة الأمل هو بمقدار الحماس العاطفي الزائد والاندفاع الغير مدروس وقت الفورة والنشوة، لهذا يكون اندفاعنا عالياً وأصواتنا مدوية إذا حلت بنا واقعة، فنتوعد ونتهدد ونريد تكسير العالم، ولا نرضى إلا بنصر يُلحق الهزيمة النكراء بالعدو ويغيّر وجه المنطقة إلى الأبد. أما ما يأتي بعد الفوران وانشقاق الغبار عن معاركنا، فلا حاجة لذكره، لأنه الحياة والذل الروتيني الذي نعيشه كل يوم تحت الاحتلال أو في أوطاننا المسلوبة، نأكله مع طعامنا ونراه في وجوه أطفالنا وحسرة كبارنا. إن أشد ما نتوق إليه اليوم هو صفاء النوايا وصدق الوعود والتضحية الحقيقية من أجل العيشة الكريمة لنا ولمن يأتون بعدنا، وليس من أجل الحوريات وأنهار العسل.

أذكر يوم هاجم صدام حسين الكويت أنني كنت جالسا مع مجموعة من الأصدقاء. أذكر وقتها كيف كانت لهفة الجميع وحماستهم أن الأمة العربية رُزقت بصلاح دين جديد, بعبد ناصر جديد.. إن أيام الذل والهوان ذهبت إلى غير رجعة. أذكر يومها أنني قلت لهم أن دكتاتورا بشعا كهذا الطاغية لا يمكن له أن يكون قائدنا ومخلصنا، والذي سببه لشعبه من دمار وخراب لا يُمكن أن يُغفر له, ولكنني لا أذكر كيف تحول رأيي من مستنكر إلى مُتحمس، لا أدري كيف تخليت عن رأيي الأول, الذي أثبت صحته فيما بعد, وصرت أرقص وأتحمس لسماع الأخبار عن صواريخ صدام المتجهة غربا.

إنهم يعرفون أعماقنا

أذكر أنني كنت أضحك وأنا أسمع معلقي الفضائيات العربية وهم يتحدثون عن فشل التخطيط الأمريكي، وكيف فشلوا في تحليل الشخصية العربية، إذ توقعوا أن تستقبلهم الجماهير بالورود والأهازيج بدل الرصاص والقنابل، وكنت متأكدا أن هذا كله كان في مخططهم لتدمير العراق تدميرا شاملا، ولكنني لا أذكر متى بدأت بتصديق هؤلاء المعلقين والاستماع إلى تحليلاتهم.

إنهم يعرفون كيف يحاصروا عقولنا

أظن أن العقل لا يمكن أن يصمد أمام تلاعبات النفس والعواطف، إلا إذا كان ثابتا كالجبل، ولكن هذا من سمات العظماء فقط.

كنت أظن أن الشعوب العربية بارعة في تحويل الفوز إلى انتصار، والنكسة إلى مكسب, ولكنني اكتشفت لاحقا أن العدو يقرأ الشخصية العربية كما يقرأ الطالب قصة قصيرة, يفهموننا أكثر مما نفهم أنفسنا, فهم في كل معركة وبعد أن يُكملوا مهمتهم يرمون لنا بالُفتات لنبني فوزنا عليه. فهم يبدؤون دائما بتصريحات إما كل شيء أو لا شيء، وبعدها يتنازلون قليلا عن هذه المطالب بحجة أنهم فقط يريدون توجيه ضربة موجعة ليس إلا، وعلى هذا نبني نصرنا.. أما على أرض الواقع فيكونوا قد دمروا العمران والبنية التحتية، وحصدوا الآلاف بقنابلهم وحقدهم، ولا يبالون بادعائنا بالفوز علنا...

لو كنا أحرارا فلن نفرح بفوز إلا إذا حصدنا من أرواحهم أكثر ما حصدوا منا، ودمرنا من عمرانهم أكثر مما دمروا عندنا، وكسبنا أرضا منهم أكثر مما أخذوا منا, وإلا ففرحنا بهذا الفوز الناقص ما هو إلا اعتراف صريح منا بأن حياة إنساننا أقل قيمة من حياة إنسانهم. ولكنني اليوم لا أرى إلى هذا أي طريق, فقوتنا تكمن في أننا أصحاب حق, فنحن الذين احتُلت أراضيهم وهم بنظر العالم ما يزالوا المحتلون، وبنظر القانون الدولي نحن أصحاب حق، وهناك العديد من القرارات التي تُثبت حقنا، ولكننا بعماء بصيرتنا نقع في فخهم، ويجروننا دائما إلى لعبتهم التي يتقنوها جيدا، وهي لعبة القوه والعنف.

الانتفاضة الأولى أربكت إسرائيل أكثر من أي حرب بعدها أو قبلها، لأنها كانت تمثل قوتنا الحقيقية, التمسك بحقنا رغم قلة حيلتنا, فهزمناهم بالحجر لأننا بنينا استراتيجيتنا على صخرة منيعة, فنحن أصحاب حق ولكننا لا نملك قوة السلاح لدحر الاحتلال، فدحرناه بالرمز وانحنينا لنمسك بشيء لنرمي به الدبابة، فلم نجد غير الحجر.. الحجر الذي يضاهي بقوته كل الكاتيوشا والقسام والشهاب.

أما بعد أن دخلنا عالم المهاترات والوعود الفارغة أصبحنا أمام العالم إرهابيين، وأصبح إرهاب إسرائيل يوازي إرهابنا، وأصبحنا نشن الحروب بعد أن كنا ننتفض بالحجر، وصارت الصورة سلاح مقابل سلاح, رغم الفرق الشاسع بين هذا وذاك, وهذه هي نقطة ضعفنا. الآن قد طغت قوة السلاح على الإرهاب الحقيقي والحق الذي لا جدل عليه.

الحُر يجب أن ينبذ الإرهاب, فكل قتل للمدنيين هو إرهاب, وذلك ليس من أجلهم إنما من أجل إنسانيتنا، من أجل أن لا يموت فينا الإيمان بأننا أصحاب حق, من أجل أن نستنكر إرهابهم بكل جوارحنا, من أجل أطفالنا الذين لا نستطيع أن نشرح لهم كيف يكون قتل الطفل مرة محرما ومرة مسموحا, من أجل ديننا وأنبيائنا الذين حرموا قتل الأبرياء والمدنيين والعزل.

إن لنا أن نتخذ موقفا صريحا واحدا, فإما أننا لا نريد الاعتراف بإسرائيل ونوقف كل المفاوضات معها, أو أن نختار طريق السلام والاعتراف المتبادل، ونذهب بهذا الطريق إلى النهايإ وبدون مواربة. أما الذين يتخذون المواقف الزئبقية ويريدون اللعب على الحبلين، فيضرون أكثر مما ينفعون، لأن الموقف الغير محدد الذي نتخذه الآن لا يخدم إلا العنف الذي هو سلاحهم الأمثل، ولا يجلب لنا إلا الشرذمة والتشتت، ويخدم الطفيليين الذين يلعبون بمشاعرنا ويستغلون آلامنا وجراحنا لخدمة مخططاتهم، فنبقى أسرى بين من يتحكم بمصيرنا وبين من يدغدغ أحلامنا, وهؤلاء ربما يكونون أخطر، فهم يلتفون على أفكارنا وآمالنا ويغيبون عقولنا بكل الطرق والوسائل. يأخذوننا أسرى بالأحلام عندما يتوعدون ويتهددون بالقضاء على العدو، وكيف أن المعركة القادمة ستكون مفصلية. يأخذوننا أسرى بالتهديد والوعيد إذ أن كل من تسول له نفسه انتقادهم ما هو إلا عميل وجاسوس. يأخذوننا أسرى بالنفي والعزلة حين لا نريد أن نمشي مع القطيع. يأخذوننا أسرى بالتكفير لو سولت لنا أنفسنا أن نعترض على ما هو أمر إلهي بنظرهم. يأخذوننا أسرى بالتهشيم والتقزيم عندما يشعرون أن أفكارنا يُمكن أن تهز كراسيهم. يأخذوننا أسرى بعجلهم الذهبي عندما نريد أن نترك لهم الدنيا وما فيها لنبحث عن حقيقة أنفسنا، فالمشكلة والحل يكمنان في الإرادة. خلاصنا بقوة إرادتنا وإيماننا بعدالة قضيتنا، ولن يأتينا الخلاص إلا من داخلنا على مستوى الفرد والوطن، ومن يبحث في مكان آخر فقد ضل السبيل.

ملاحظه (لمن يحتاج هذه الملاحظة): هذا الكلام طبعا يُمثل رأيي ولا يستند لأي إثبات علمي أو تربوي أو أي إجماع ديني أو ما شابه, وربما يكون ناقصا أو غامضا أو حتى متناقضا، إذ أني لا أدعي الكمال, ولكنني أحببت أن أعرضه لأسمع آراءكم التي قد تكون مفيدة للجميع.

سعيد ابو صالح
golaner@gmail.com
qalam.elaphblog.com